فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (30):

{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)}.
التفسير:
حين أصبحت الأرض صالحة لاستقبال الكائن البشرى، أعلن اللّه تعالى في الملأ الأعلى هذا الخبر، وآذن الملائكة بأن كائنا بشريا سوف يظهر في الكوكب الأرضى، وسيتولى قيادة هذا الكوكب، ويكون خليفة اللّه فيه! والآية صريحة في أن هذا الكائن البشرى أرضىّ المولد، والنشأة، والموطن، وأنه من طينة الأرض نشأ، وفى الأرض يتقلب، وفى شئونها يتصرف.. {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
هكذا من أول الأمر.
فلم يكن آدم ابن السماء فلما عصى ربه طرد منها ليكون خليفة اللّه على الأرض ولو كان ذلك كذلك لما كان للملائكة أن ينفسوا على آدم هذه الخلافة، التي تبدو في هذا التصور عقوبة وتجريما، أكثر منها حباء وتكريما.
ولكن آدم- وهو ابن الماء والطين- لا يتوقع منه إلا أن ينضح بما في الماء والطين، وبما يتخلّق من الماء والطين، من طبائع بهيمية، تغرى بالعدوان والفساد.. وهذا ما جعل الملائكة يقولون هذا القول بين يدى اللّه، في آدم وما يتوقع منه، فما هو إلا إنسان في مسلاخ حيوان ذى مخالب وأنياب! وذلك قبل أن يكشف اللّه لهم عن ملكات أخرى لهذا الكائن الترابي، لا يملكها الملائكة، في عالمهم العلوي، عالم النور والصفاء! وتلك آيات بينات، تشهد لقدرة الخالق العظيم.

.تفسير الآيات (31- 33):

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}.
التفسير:
وهذا الامتحان الذي يعقد في الملأ الأعلى، يكشف عن الاستعداد الفطري لتفوق آدم على الملائكة في العلم الذاتي، الذي يكتسبه بالنظر والملاحظة والتجربة، وبالمعاناة والمجاهدة، الأمر الذي ليس من طبيعة الملائكة أن تعالجه وتعانيه.
ففى آدم- بما أودع اللّه فيه من قوى- قدرة على الترقي والاستزادة من المعارف، بتوجيه ملكاته إلى النظر في هذا الوجود، وملاحظة الأسباب والمسببات، وربط العلل بالمعلولات، وبهذا يتنقل الإنسان من طور الطفولة إلى الصّبا والشباب والاكتهال والشيخوخة، وفى كل طور يحمل معارف جديدة إلى الطور الذي يليه، تعينه على اكتساب معارف أخرى، ينتقل بها إلى طور آخر، وهكذا.. ثم هذا التطور الخلّاق الذي يقع في حياة الإنسان الواحد، يقع في الجنس البشرى كله، حيث يتلقى كل جيل من الجيل الذي قبله جميع معارفه، وتجاربه، ويضيف إليها معارف جديدة وتجارب جديدة، يتركها ميراثا للجيل الذي بعده.. وهكذا.
أما الملائكة.. فهم على حال واحدة، لا يطرأ عليها تحول ولا تبدل.
فليس لهم طفولة وصبا وشباب وشيخوخة، كما أنه ليس لهم مع الزمن زيادة في علم أو معرفة عن طريق الكسب الذاتي، وإنما يجيء علمهم ومعرفتهم بما يتلقونه من اللّه تلقيا مباشرا: {لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا}.
وبهذا اختلف الناس، فكان كلّ إنسان عالما وحده، له وجوده الذاتي، وله تفكيره، وإرادته، ومنزعه.. فكان فيهم المؤمن والكافر، والمهتدى والضال، والعالم والجاهل.
أما الملائكة فهم نمط واحد، من الصفاء، والبهاء، والطاعة المطلقة، المستسلمة، التي لا تنزع عن إرادة، ولا ترجع إلى نظر وتقدير.
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}!.
وعلى هذا، فالملائكة- وإن شرفوا قدرا، وعلوا منزلة- ليسوا أهلا للخلافة على هذا الكوكب الأرضى.. لأن منصب الخليفة يقتضى استقلالا في تصريف الشئون فيما هو خليفة فيه، ومتسلط عليه، كما يقتضى تفكيرا وتقديرا للأمور، ثم إرادة تمضى ما انعقد عليه الرأى. شأنه في هذا شأن الوكيل، الذي يتولّى عن الأصيل التصرف فيما وكّل فيه، دون الرجوع إلى موكّله.
والإنسان، بما له من عقل، وإرادة، هو المستأهل لهذه الخلافة على الأرض، يتولاها عن اللّه، ويتولّى ضبط أمورها وسياسة شئونها.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}.
اختلف في هذه الأسماء التي علمها اللّه سبحانه آدم- أعنى الإنسان- والرأى في هذا، أن اللّه سبحانه أودع في الإنسان القدرة على البحث والنظر في الكشف عن خصائص الأشياء، وعللها، وأسبابها، والوقوف على أسرارها المودعة فيها، وحلّها وتركيبها.. وبهذه القدرة عرف حقائق كثير من الأشياء، وهو جادّ أبدا في الكشف عن المزيد منها، يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل، وعصرا إثر عصر! وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به.
فالمراد بالأسماء هنا هو مسميات تلك الأسماء، والمراد بالمسميات، خصائص هذه المسميات، وحقائقها.
والأسماء كلها، لا يراد بها أسماء جميع الموجودات في هذا الوجود، إذ أن آدم لا يمكن أن يحيط علمه بكل موجود، ظاهر أو خفى، قريب أو بعيد.
وإنما المراد- واللّه أعلم- المسميات التي تكشفت حقائقها لآدم وذريته، واهتدوا إلى التعرف عليها، وتحديد موقفهم منها، إيجابا أو سلبا.
ففى دائرة هذه المعرفة كان امتحان الملائكة، وكان عجزهم، وكان إعلام آدم إياهم بما عجزوا عن معرفته! فكان ذلك أبلغ ردّ على اعتراض الملائكة، وجلاء الموقف الذي وقفوه من آدم.
فالمراد بآدم هنا هو الإنسانية كلها، وكان امتحان الملائكة فيما عرف أبناء آدم من أسرار هذا الوجود.
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
أي عرض اللّه مسميات هذه الأسماء، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ}.
فالمعروض لنظر الملائكة ذوات مشخصة، يراد من الملائكة أن يضعوا لها أسماء، تدلّ عليها، وتكشف عن حقيقة كل واحد منها.
والأشياء المعروضة هنا عاقلة، أو في حكم العاقلة، لأنها من صنعة العقلاء حيث خوطبت خطاب العقلاء، وحيث أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: {عرضهم}...................
{هؤلاء}.
ذلك هو الوجه الأقرب لملفوظ الآية، وليكن في تقديرنا أن الزمن الذي احتوى هذا الحدث ليس ابن لحظة أو ساعة، فقد يمتد إلى مئات السنين وآلافها.
فإذا آذن اللّه الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يظهر هذا الخليفة.. ثم إذا ظهر فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يتحدث الملائكة إلى اللّه بهذا الحديث عن آدم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} وذلك بعد أن عاش الإنسان على هذه الأرض، وأحدث ما أحدث فيها من خير وشر! وآدم الذي واجه الملائكة، قد لا يكون أول السلالة الإنسانية، بل لعله في حلقة متأخرة شيئا ما عن الحلقة الأولى لهذه السلالة.
إن لآدم- في نظرنا- مفهوما غير هذا المفهوم الذي تحدث عنه روايات المفسرين التي تعتمد في هذا على الإسرائيليات، وعلى ما بقي من أساطير الأقدمين من قصة الخلق ومكان آدم فيها.
وسنعرض لهذا بعد قليل.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)}.
التفسير:
أما وقد نجح آدم في هذا الامتحان، وأظهر من العلم ما قصر علم الملائكة عنه، فقد استحق أن يكرم، وأن يكون هذا التكريم من الملائكة أنفسهم، لأنهم هم الذين أنكروا عليه تلك الخلافة التي جعلها اللّه له، ليكون ذلك بمثابة ردّ اعتبار لآدم عند من نقصوه، وثمنا يقتضيه منهم لقاء انتقاصهم له!! وقد تلقى الملائكة أمر اللّه بالقبول والرضا، فسجدوا لآدم سجود تعظيم وتكريم، لا سجود عبادة وتأليه، فلا عبادة إلا للّه، ولا مألوه غير اللّه!
الجن.. إبليس.. الشيطان:
سجد الملائكة كلهم أجمعون.. إلا إبليس! ومن إبليس هذا؟
ورد في القرآن الكريم وفى أكثر من موضع ذكر إبليس، والشيطان، والجن، على أنها قوى خفية، تتحرك في المجال الإنسانى، وتراه دون أن يراها.
وإبليس والشيطان، يذكران دائما في معرض التحذير منهما، والتخويف من إغرائهما وإغوائهما، إذ كان من شأنهما العداوة للإنسان، والنقمة عليه.
ويذكر {إبليس} وحده في مقام دعوة الملائكة للسجود لآدم وامتناعه هو عن السجود، استكبارا لذاته، وعلوا على آدم الذي خلق من طين، على حين أنه خلق من نار.
وفى هذا يقول اللّه تعالى في الآية السابقة: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ}.
ويقول سبحانه في سورة الأعراف: {ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [11: الأعراف].
ويقول سبحانه في سورة الإسراء: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [61: الإسراء] ويقول جل شأنه في سورة الكهف: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [50: الكهف]. ويقول في سورة طه: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى} [116: طه] وفى سورة ص: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} [73- 74 ص] ويلاحظ أنه لم يذكر في هذا الموقف الشيطان أو الجن.
وهذا ما يشعر بأن إبليس على صفة خاصة، غير صفة الشيطان، والجن، وإلا لما التزم القرآن ذكر إبليس في هذه الصور المتعددة لموقف واحد، الأمر الذي لا يلتزمه القرآن إلا حيث لم يكن من التزامه بد.
وننظر من جهة أخرى فنجد القرآن الكريم يتحدث عن إبليس بأنه كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه.. كما جاء ذلك في الآية الواردة في سورة الكهف.. فإبليس- على هذا- من عالم الجن، وأنه وحده الذي خرج عن أمر ربه، وأعلن هذا العصيان الوقاح!.
ويتحدث القرآن في ثمانية وستين موضعا عن الشيطان، بلفظ المفرد الشيطان وفى أحد عشر موضعا بلفظ الجمع: الشياطين.
وفى جميع هذه المواضع يجيء الحديث عن الشيطان أو الشياطين في مقام التحذير من الضلال والغواية للإنسان من كيد الشيطان.
{إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً} [53: الإسراء].
{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [6: فاطر] وهذه العداوة التي بين الشيطان وآدم، وذرية آدم، هي امتداد لتلك العداوة التي حملها إبليس لآدم، حين امتنع عن السجود له مع الملائكة، كما أمره اللّه، وكان ذلك سببا في أن لعنه اللّه وطرده من الجنة.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [27: الأعراف]، ويقول سبحانه عن الشيطان وهو يوسوس لآدم ويغريه بالخروج عن أمر ربه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} [120: طه] ويقول سبحانه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} [20، 21: الأعراف] وهنا يبدو الشيطان وإبليس وكأنهما اسمان لذات واحدة، فما عرف إبليس إلا بهذا الوجه المنكر الملعون، وما عرض الشيطان إلا في هذه الصورة الكريهة المخيفة.
ومن جهة أخرى فقد كان إبليس من عالم الجن، ففسق عن أمر ربه.
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [5: الكهف] ومن جهة ثالثة تحدّث آيات القرآن عن إبليس وكأنه من عالم الملائكة، حيث توجّه الأمر للملائكة بالسجود، فامتثلوا جميعا أمر ربّهم إلا إبليس.
فهو استثناء متصل.. {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [31: الحجر] {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [5: الكهف] وعلى هذا نستطيع أن نقول:
أولا: إن إبليس كان من الملائكة.
ثانيا: أنه كان في درجة دنيا، في هذا العالم الروحي، هي درجة الجنّ الذين وإن أشبهوا عالم الملائكة في أنهم خلقوا من شعلة مقدسة، إلا أن الملائكة كانوا من نور هذه الشعلة، على حين كان الجن من نارها، كما يقول تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ}.
ولهذا كان الملائكة صفاء خالصا، بينما كان الجن صفاء مشوبا بكدر.
نارا مختلطة بدخان!، ولهذا أيضا كان الجن فيهم الخير والشر، وكان منهم الأخيار والأشرار، كما يقول اللّه تعالى على لسانهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [14، 15 الجن].
ثالثا: لم يظل إبليس في جماعة الجنّ، بل أخرجه اللّه من بينهم، حين أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين، فلعنه اللّه، وطرده، وجعل له اسم إبليس سمة يعرف بها، في هذا الموقف الذي حلّت عليه فيه اللعنة والإبلاس.
رابعا: بدأ إبليس منذ اللعنة التي حلّت به يتحول خلقا آخر، فإذا هو شيطان مريد، وشيطان رجيم، وإذا هو قوة شر منطلقة، يتطاير منها شرر، يصيب من يتعامل معه، ويتبع خطاه، وتلك الشرارات المنطلقة منه هي ذريته التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}.
وهى شياطين أخرى، تنطلق منها شرارات شيطانية.. وهكذا.
فإبليس كان من عالم الجنّ، ثم نزل إلى إبليس ثم تحول من إبليس إلى شيطان..!

.تفسير الآيات (35- 39):

{وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)}.
التفسير:
آدم وجنته:
أشرنا فيما سبق، إلى أن آدم أرضى المولد، والنشأة، والموطن، وأنه من طينة الأرض نشأ، وفى الأرض يتقلب، وفى شئونها يتصرف، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} [55: طه] ونريد هنا أن نقف قليلا مع قصة الخلق- خلق آدم- كما تحدث عنها القرآن، لا على ما جاءت به التفاسير من إسرائيليات وأساطير عن خلق آدم، فألقت بذلك ظلالا على آيات اللّه، وأخرجت منها مفهوما لخلق آدم، يبعد كثيرا عمّا صرح به منطوق الآيات ومفهومها، ويصادم أيضا بعض حقائق العلم الحديث فيما كشف عنه علم الحياة وأصل الأنواع، بل ويصادر العقل الإسلامى الذي يفهم القرآن على ضوء هذه التفاسير، فلا يجد له سبيلا إلى النظر والبحث عن أصل الإنسان، ومكانه في سلسلة التطور.
والحق أن القرآن الكريم يعرض قصة خلق آدم عرضا محكما، يقف أمامه العلم- في جميع مستوياته- خاشعا مستسلما، ويستقبله العقل- في مختلف أطواره- راضيا مسلّما، لا يستطيع أن يجد فيه ثغرة للطعن، أو النقض.
ومع أن القرآن ليس كتاب علم، وليس من همّه أن يقرر حقائق علمية، فإنه في قضية خلق آدم، قد أمسك بها من أطرافها، وجاء بها على الوضع الذي يلتقى مع الحقائق العلمية في أصدق وجوهها وأضوئها.
فمن شاء أن يلقى القرآن هنا بكل ما تكشف من العلم، وما ثبت من حقائقه في قضية الخلق، فليأت بما معه، وليدل بحجته بين يدى كتاب اللّه، كمن يحمل الماء إلى البحر، أو يرسل الضوء إلى الشمس.
استمع إلى ما يحدث به القرآن عن خلق الإنسان:
1- {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [105: الحج].
2- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [26: الحجر].
3- {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ} [14: الرحمن].
4- {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [71: ص].
5- {إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [11: الصافات].
6- {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ} [7: السجدة].
7- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [12: المؤمنون].
8- {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} [13- 14 نوح].
9- {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [17: نوح] فالطين كما تصرح به الآيات هنا، هو الأصل الذي خلق منه الإنسان، وأن هذا الطين قد تقلب في أطوار عديدة، حتى ظهر منه هذا الإنسان.
فهناك: التراب، وهناك الطين، والطين اللازب، ثم الصلصال، ثم الحمأ المسنون.. فالتراب هو المادة الأولى في خلق الإنسان، ثم يلبس التراب طورا آخر، هو الطين، ويتتقل الطين إلى طور جديد هو الصلصال، ثم الصلصال إلى حمأ مسنون.. وهكذا يتنقل التراب في أطوار حتى يكون إنسانا.
والحمأ المسنون، هو الطين بعد أن يتخمر ويتعفّن، وبين طور الطين والحمأ المسنون طور آخر هو الصلصال، الذي يتحول فيه الطين إلى مادة من الزبد تشبه الفخّار.
وبلغة العلم: يكون التراب فالطين، فالصلصال، فالحمأ المسنون، أربعة أطوار تتنقل فيها بذرة الحياة، وإن هذا التخمر والتعفّن الذي أصاب الطين فجعله الحمأ المسنون لهو بشائر الحياة، إذ هو البكتريا التي تولدت منها خمائر الحياة، وظهرت منها جرثومتها الأولى {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} [13- 14 نوح] ومقررات العلم الحديث تقول: إن الحياة ظهرت على هذه الأرض أول ما ظهرت، على شواطئ البحار، حين يتكون الطين، فالزبد، فالحمأ المسنون، فالطحالب، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان.
هكذا يقرر العلم الحديث في نشوء الحياة وتطورها، وهو- أي العلم- يرى أن هذه الأطوار قد سارت عبر ملايين السنين حتى أثمرت شجرتها الأولى أكمل وأكرم ثمرة.. هي الإنسان.
والقرآن الكريم، وإن لم يتعرض لهذه الشجرة التي كانت منها أصول الحياة وفروعها، والتي كان الإنسان- فيما نرى- فروعا من فروعها وثمرة من ثمارها- لم يجيء بما ينفى هذه الصلة، وتلك القرابة، التي بين الإنسان وبين عوالم الأحياء.. بل إنه- على عكس هذا- قد أشار في أكثر من موضع إلى ما يمكن أن يستقيم منه فهم واضح لتلك الصلة الوثيقة، بين الإنسان وعالم الحياة كله.
ففى قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ} [45: النور] وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [30: الأنبياء] دلالة قوية على أن الأحياء كلها- ومنها الإنسان- مخلّقة من مادة واحدة.. هي الماء.. والماء هو المادة التي يتكون منها الطين، إذ لا وجود للطين إلا مع الماء، وبالماء.
وقد نجد عند بعض المفسرين لمحات ذكية، تشير إلى شيء من هذا الذي أصبح من مقررات العلم الحديث.
فالبيضاوى يقول في تفسيره لقوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}: أي من طين تغير واسودّ من طول مجاورة الماء.
فالقول بانتماء الإنسان في أصل نشأته إلى شجرة الحياة العامة النابتة في الأرض، من الأرض، لا يعارض نصا من نصوص القرآن، بل إنه ليلتقى معها في يسر ووضوح.. فإذا كان الإنسان- آدم- خلق من طين، فالأحياء كلها- نباتا وحيوانا- مخلوقة من طين! فالإنسان إذن هو ابن هذه الأرض: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} [55: طه].
وأكثر من هذا، يحدّث القرآن في صراحة، أن الإنسان- أي أصله- نبتة من نبات الأرض: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [17: نوح] ولو كان الإنسان من طينة غير طينة هذه الأرض، لما كان له سبيل إلى الحياة على هذه الأرض والقرار فيها، والانتفاع بموجوداتها، من جماد، ونبات، وحيوان! وليس ذلك بالذي يزرى بالإنسان، أو يحط من قدره، فمن هذا الطين تتخلق أكرم الجواهر، وأنفس المعادن.. من لؤلؤ ومرجان، وذهب، وفضة، وغيرها.. والإنسان هو الذي يضع نفسه حيث يشاء.. إن شاء كان جوهرا كريما، وإن أراد كان طينا لازبا أو حمأ مسنونا أو حجرا صلدا، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.
وصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ يقول: «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية، حيارهم في الإسلام».
ففى هذه الكلمة النبوية الجامعة، ما يشير إلى مدلول الآيات القرآنية، التي تتحدث عن خلق آدم، والمادة التي خلق منها، على الوجه الذي قهمناها عليه! يقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال في معرض حديثه عن قصة آدم، كما جاءت في القرآن الكريم، وفى التوراة.. يقول: وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لاصلة بها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها- بالأخرى- بيان ارتقاء الإنسان، من بدائية الشهوة الغريزية، إلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان وليس يعنى الهبوط، أىّ فساد أخلاقى، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس، هو نوع من اليقظة في حلم الطبيعة، أحدثتها خفقة من الشعور بأن للإنسان صلة علّيّة شخصية بوجوده.
وهذا الفهم الذي فهمه إقبال لآيات القرآن الكريم في خلق آدم، هو- كما ترى- أقرب فهم إلى منطوق كلمات القرآن، ودلالتها اللغوية، كما أن هذا الفهم الذي يقف بآيات القرآن عند هذه الحدود، يحمى ينابيع القرآن الصافية، من هذا الغثاء الذي يلقى به في ساحتها، من تلقيات الأوهام والخرافات التي تتناقلها أجيال الناس، وتلونها بألوان وأصباغ، تكاد تغطى سماء آيات الكتاب الكريم، وتحجب أضواءها.
ثم إنه بمثل هذا الفهم الملتزم لحدود المعنى اللغوي لآيات الكتاب الكريم يظل الطريق مفتوحا بين آيات الكتاب وأنظار الناظرين فيها، كلما جدّ للناس فهم في الحياة، وكلما انكشف لهم سر من أسرارها.. حيث يمكن عرض كل جديد، على القرآن، في حدود منطوق كلماته ومفهومها، فيقبل من هذا الجديد ما يقبل، ويرفض ما يرفض، دون أن يكون عليه من ذلك شيء.. بل يظل في عليائه، مشرفا مشرقا، تأخذ العيون من ضوئه، على قدر استعدادها وقوتها.
فمثلا نظرية دارون في أصل الأنواع، وفى النشوء والارتقاء.
هذه النظرية، كانت ولا تزال عند كثير ممن أخذوا فهم الآيات القرآنية في خلق آدم، عن هذه النقول الخرافية، وهذه المقولات الأسطورية التي جمعها المفسرون والقصّاص، من كل ساقطة ولاقطة- كانت ولا تزال هذه النظرية عند كثير من هؤلاء، من الكفريات، والإلحاديات، التي إن جرت على لسان، كان مجرد جريانها عليه كفرا وإلحادا!! ولهم عذرهم في هذا!! فالذين قرءوا في كتب التفاسير والقصص، أن آدم خلق في الملأ الأعلى، وأن طينته غرست في جنة عدن، أو جنة الخلد، أو غيرهما من الجنان- على اختلاف روايات المفسرين في هذا- هؤلاء الذين قرءوا هذه المقولات في نشأة آدم، يرون أن كل قول يخالف هذا، هو خروج على الدّين، بل خروج من الدين! في حين أن هذا الأمر كلّه ليس فيه شيء من الدين، ولهذا أباح المفسرون أن يترخصوا في الحديث عنه، وألا يلتزموا فيه حدّا، فكان لكل منهم مقولاته، التي قرأها أو سمعها، أو توهمها، لأن هذا الأمر ليس من باب التشريع والأحكام، فتتحرّى له الصحة والضبط.
على أن مقولات دارون التي أنكرها علماء الدين، وهاجوا وماجوا من أجلها، إنما تقوم على علم وتجربة، وقد يكون فيها قليل أو كثير من الخطأ في الاستنتاج، ولكن الذي ينبغى أن يكون عليه موقف العقل إزاءها، هو الاحترام لها، والتقدير للجهد الذي بذل فيها، وما دامت ترجع إلى التجربة، وتحتكم إلى العقل، فإن كل عقل مدعوّ إلى الوقوف عندها، والنظر فيها، وأخذ ما يطمئن إليه منها.. أما صدّ العقل عنها، وفراره من بين يديها، فذلك إزراء بالعقل، وامتهان له، وتعطيل للوظيفة التي خلق لها، وخروج على دعوة القرآن التي دعاه إليها.
ثم إن داروين الذي أثار هذا الإعصار العاصف، في عقول رجال الدين- من كل دين- لم يكن منكرا للّه، ولا كافرا به، بل إنه- فيما يروى عنه- كان من أشد الناس إيمانا باللّه، وشهودا له في آياته، التي رآها رأى العين، فيما أبدع الخالق وصوّر، من مخلوقات متطورة، تتحرك في مسار الحياة، من الطين، إلى أن تكون إنسانا عاقلا، حكيما عالما، نبيّا.. يطاول السماء فيتناول بيديه كتاب اللّه، ويسمع بأذنيه كلمات اللّه! يقول داروين في حديثه عن أصل مذهبه: إن المشابهة، وأسبابا أخرى، تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد، وألّا فاصل جوهريا بين العالمين: عالم النبات، وعالم الحيوان.
ثم يقول: إنى أرى، فيما يظهر لى، أن الأحياء عاشت على هذه الأرض من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة! وإذا كان لأحد أن يقف من دارون موقف الهلع والخوف، على معتقده الديني، فليس هو المسلم، الذي يعترف دينه بالعقل، وبحقه في البحث والنظر، وفى احترام مؤدّى هذا البحث والنظر، الذي لا يقوم على هوى، ولا يستند إلى سلطان غير سلطان الحجة والبرهان! ثم إنه إذا كان لأى دين أن يجافى مقولات داروين أو أن يضيق بها فليس هو الدين الإسلامى، الذي تكاد تنطق آياته بما أعيا داروين والعلم الحديث، الوقوف عليه، من أسرار الخلق وعظمته! ومع ما نعرف من أن القرآن الكريم ليس كتاب علم، وأن الرسالة الإسلامية لم تجئ لتقرير حقائق علمية- فإن في عرضه لمشاهد الكون وفى كشفه عن مظاهر الوجود، لمحات مضيئة، وإشارات مشرقة، يجد فيها العلم الحديث مستندا لمقولاته، ومجازا لمقرراته.
وسنرى في قصة آدم، التي نحن بصددها، أنها تسبق ما يقرره داروين في نظرياته، عن التطور وأصل الأنواع! ونعود إلى تلك القصة، فنقول:
ربما رأى بعض علمائنا أن في قوله تعالى: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ}، وفيما جاء من الآيات التي تحدّث عن دعوة اللّه سبحانه وتعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم، عند ما ينفخ فيه الحق جل وعلا من روحه- قد يرى بعض علمائنا أن في هذا ما يدل على أن آدم قد انفرد بخلق خاص، دون سائر المخلوقات الأرضية، وأنه لهذا استحق التكريم والاحتفاء! ونقول: إن ما ورد في الآية السابقة وأمثالها، إن دلّ على خصّيصة لآدم، فإنه لا ينفى أن يكون ذلك قد كان حين وصل تطور الحياة بالأحياء إلى هذه المرحلة، التي بلغ فيها التطور غايته، بظهور هذه السلالة الناضجة من ثمرات الحياة، وبزوغ أول مواليد النوع الإنسانى.. ويكون معنى قوله تعالى: {إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} أنه إذا بلغ الكتاب أجله بهذا الطين، الذي سرت فيه الحياة، وتوالدت منه الأحياء، إلى أن آذنت في تطورها بظهور النوع البشرى الذي تهيأ لقبول النفخة الإلهية فيه- {فقعوا له ساجدين} إذا هو تلقى النفخة من روح الحق جلّ وعلا، وتكون تلك النفخة هي منحة السماء للأرض، في يوم ميلادها لمولودها الذي يدبّر أمرها، ويكون خليفة اللّه عليها.
ولعل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} لعل في هذا ما يشعر بالمعنى الذي ذهبنا إليه، وهو أن آدم لم يجيء من الطين مباشرة، وإنما كان ذلك بعد سلسلة طويلة من التطورات، وبعد عمليات معقدة من التصفية والانتخاب، استمرت ملايين السنين، حتى انتهت بظهور الإنسان على تلك الصورة التي علا بها جميع أبناء سلالاته، وكان أهلا لتلقى النفخة الإلهية يوم مولده، وكأنها التاج الذي توّج به ملكا على العالم الأرضى كله. وهذا ما تشير إليه أيضا الآية الكريمة: {ما لكم لا ترجون للّه وقارا وقد خلقكم أطوارا}.
ثم إن النظر العابر في عالم الأحياء يعطى دلالة قاطعة على أن الإنسان هو من طينة الأسرة الحيوانية.. فهذا التشابه الكبير في تركيب الأعضاء، والحواس، وعملية الهضم، والتنفس، ومجرى الدم في العروق، ثم في عملية التناسل في مراحلها المختلفة.. كل هذا التشابه يقطع بأن الإنسان حيوان قبل أن يكون إنسانا! وإنك لتجد الإنسان كله في أدنى المخلوقات، وفى أرقاها.. من الدودة والحشرة، إلى القرد والغوريلا.
وعلى هذا، فإننا لا نستطيع أن نقبل أقوال المفسرين في خلق آدم، على تلك الصورة التي يرسمونها للأسلوب الذي ولد به.
فمثلا، القرطبي يقول في تفسيره عن خلق آدم: فخلقه اللّه بيده، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة، ففزعوا منه لمّا رأوه، وكان أشدهم فزعا إبليس، فكان يمر به، فيضربه، فيصوّت الجسد، كما يصوّت الفخار تكون له صلصلة، ويقول إبليس: لأمر ما خلقت!!.
وهذا القول وأمثاله إن هو إلا من موارد قصص الأولين وأساطيرهم، وليس في آيات القرآن الكريم دلالة عليه، من قريب أو بعيد.
وننتهى من هذا إلى قول واحد في هذه القضية، وهو الاحتفاظ بها في الإطار القرآنى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فآدم مخلوق من {تراب} أو من {طين} أو {حمأ مسنون} أو من {طين لازب} أو من {سلالة من طين} أو من {صلصال كالفخار} أو نبت من الأرض نباتا.
فهذا هو الذي يقوله القرآن في خلق آدم! ثم ليقل العلم ما يشاء من مقولات، فإن مصير العلم وما يقع له من حقائق ثابتة في هذا الشأن لابد أن ينتهى إلى تلك الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية الكريمة، لهذه القضية!
الشجرة التي أكل منها آدم:
نهى اللّه سبحانه وتعالى آدم عن أن يقرب شجرة من أشجار تلك الجنة التي أسكنه فيها، وأباح له الأكل رغدا من ثمارها.
وهذه الشجرة لم يعرض القرآن لبيان نوعها، ولهذا فهى- في محيط القرآن- غير معروفة النوع ولا الصفة، وإن كانت معروفة لآدم، حيث أشار إليها الحق سبحانه وتعالى، إشارة كاشفة، حين نهاه وزوجه عنها، بقوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ}.
وقد وصف إبليس هذه الشجرة لآدم وحواء، وصفا كاشفا لها، وللمعطيات التي ضمّت عليها، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} [120: طه] ويقول سبحانه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} [20: الأعراف] وهذه الأوصاف التي خلعها إبليس على تلك الشجرة لا تلتقى مع الواقع، ولا تحدّث عن الحق، وإنما هي من تلفيقات إبليس وأكاذيبه، ليخدع بها ويغرى.
ومع ذلك فإن المفسّرين والقصاص، قد ذهبوا في الحديث عن الشجرة ونوعها كل مذهب، مستندين في هذا إلى بعض الروايات المعزوّة إلى بعض الصحابة والتابعين، لتكتسب شيئا من الاحترام والقبول، وهى في حقيقتها إسرائيليات، وأساطير، وخرافات.
فالشجرة، هي السنبلة فيما يروى عن ابن عباس.
وهى الكرمة فيما يروى عن ابن مسعود، والسّدّىّ.
وهى التينة عن ابن جريج.
وهى شجرة الكافور عن علىّ بن أبى طالب.
وهى شجرة العلم علم الخير والشر عن الكلبي.
وهى شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة.. عن ابن جدعان.
وبعيد أن يكون لهذه المقولات مستند صحيح من كتاب أو سنة، وإلا لما كان بينها هذا الاختلاف البعيد، في حقيقة واحدة!
والقرآن الكريم، إذ وقف بالشجرة دون أن يحدّد نوعها، فإنما ذلك لأنها معروفة معهودة لآدم ولزوجه- كما قلنا- ثم إن عدم تحديد نوعها في الحديث عنها إلينا، لا يمنع أن يكون للشجرة مفهوم خاص عندنا، وإن لم يدخل فيه نوعها.. أيّا كان! فلنحاول فهم الشجرة على أنها مجرد شجرة، ليس لها صفة خاصة تمتاز بها، عن الأشجار التي معها، إلا في تحديد ذاتها بالإشارة إليها! فلتكن هذه الشجرة ما تكون.. شجرة كرم، أو تين، أو كافور، بين العديد من مثيلاتها، إلّا أن النهى والتحريم وقع عليها، دون غيرها.
وهذا التحريم لشجرة بعينها، إنما هو امتحان لآدم وابتلاء لعزيمته، أمام الإغراء، وحبّ الاستطلاع، الذي هو غريزة قوية عاملة فيه.. وهذا ما أحبّ أن أفهم عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [115: طه] وننظر، فنجد غريزة حب الاستطلاع أقوى غريزة متمكنة في طفولة الإنسانية بنوع خاص، كما هي متحكمة في طفولة الأطفال! وطفولة الإنسانية كلها مندسة في كيان آدم.
أول تباشير النوع البشرى في هذا الوجود! ولهذا، فإن هذا النهى الذي تلقاه آدم من ربّه، عن الاقتراب من تلك الشجرة خاصة دون مثيلاتها، قد وقع من نفس آدم موقعين:
1- موقع الخوف من الجهة التي ألقت إليه بهذا النهى، والحذر من أن يخالف ما نهى عنه.
2- الرغبة الصارخة في مداناة هذه الشجرة، والتعرف عليها، وعلى ما يكمن فيها، استجابة لغريزة حبّ الاستطلاع التي ألهبها هذا النهى، وأيقظها في كيانه.
ثم إلى جانب هذه الرغبة الصارخة إلى مقاربة الشجرة، كانت وسوسة إبليس لآدم، وإغراؤه له، الأمر الذي عجّل بخطوات آدم إلى الشجرة، وسيره حثيثا إليها.
ولو لم يقم إبليس من وراء آدم، يغريه بالشجرة، ويدفعه إليها، لسار إليها وحده، ولبلغها، ولأكل منها! ولكن لا يكون هذا إلا بعد زمن متراخ عن هذا الوقت الذي اقترب فيه بالفعل من الشجرة، وأكل منها!! هكذا الإنسان، وهكذا الناس، يتحدّون كل سلطان يقيد نوازعهم، ويتسلط على إرادتهم، ولو كان ذلك لخيرهم وإسعادهم.
ولهذا فإنى أحب أن أذكر هنا قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [37: الأنبياء] وقوله جل شأنه: {وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً} [28: النساء] كما أحب أن أفهم هاتين الآيتين الكريمتين على أنهما تكملان الصورة التي خلق عليها آدم، وأن إغراء إبليس له قد عجل بظهور الإنسان في آدم، وفى إنضاج ثمرته قبل أوانها!! فمنذ انتهى آدم إلى الشجرة، وذاق من ثمرها، بعد هذا الصراع العنيف بينه وبين نفسه- أدرك أنه جنى جناية غليظة، كما أدرك أنه سيلقى جزاء ما اقترف.. وهنا يتنبه إلى وجوده، فيرى أنه مخلوق ذو إرادة، يستطيع بها أن يزن أموره، وأن يتقدم أو يتأخر، بوحي من ذاته، وأنه لم يعد شيئا من أشياء الوجود التي لا تشارك في نسج حياتها، وفى صنع قدرها، وهنا يتنبه إلى أنه عار مكشوف العورة كالحيوانات السائمة، الأمر الذي لم يكن يراه من قبل، أو ينكره، ثم لم يكن في مقدور عقله وحيلته- بعد أن عرف أنه عريان- أن يسعفاه بأكثر من ورق الشجر، ليستر به سوأته.. تماما كما يفعل الآدميون من سكان الأدغال، حين ينتقلون من طور العرى الخالص إلى طور التستر بأوراق الشجر.. إنهم هم آدم وإن تأخر بهم الزمن آلاف السنين أو ملايينها!! يقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال:
فالمعصية الأولى للإنسان، كانت أول فعل له، تتمثل فيه حرية الاختيار، ولهذا تاب اللّه على آدم، كما جاء في القرآن، وغفر له وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعية للمثل الأخلاقى الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون النظرات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى! والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدّرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير! ثم يمضى قائلا: وعلى هذا، فإن الحرية شرط في عمل الخير ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل، بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها- هو في الحق مغامرة كبرى، لأن حرية اختيار الخير، تتضمن كذلك اختيار عكسه! ثم ينهى إقبال هذا الموقف بقوله: ربما كانت مغامرة كهذه هي وحدها التي تيسر الابتلاء والتنمية للقوى الممكنة لوجود خلق: على أحسن تقويم ثم رددناه: {أَسْفَلَ سافِلِينَ}.
وكما يقول القرآن: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
وهذا كلام واضح مشرق، لا يحتاج إلى تعليق، أو توضيح.
الجنة التي أهبط منها آدم:
يكاد يجمع المفسرون على أن الجنة التي كان فيها آدم، قبل المعصية، هي جنة واقعة وراء الحس، أي أنها من تلك الجنات السماوية، التي وعد المتقون بها في الآخرة.
وقد أعان على هذا الفهم للجنة، أمور.. منها:
1- ما وقع في التفكير الإسلامى من اختصاص آدم بهذا الخلق الذي انفرد به عن سائر المخلوقات.. مادة، وصفة!! 2- ما ورد في القرآن الكريم من وصف تلك الجنة، وما كان يلقاه فيها من راحة ونعيم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى} [117- 118 طه].
3- كثرة ذكر الجنة في القرآن الكريم، مرادا بها الجنة السماوية.
ومع هذا، فإن هذه الأمور لا تعطى حكما قاطعا بأن جنة آدم كانت جنة سماوية، ولا تدفع القول بأنها كانت جنة أرضية، من تلك الحدائق والغابات المبثوثة في بقاع شتى من الأرض، التي تخرج بطبيعتها من غير صنعة إنسان.
أما تلك العناصر التي مهدت للقول بأنها جنة سماوية، فيمكن فهمها فهما آخر.
فأولا: ما يقال من اختصاص آدم بخلق تفرّد به من بين المخلوقات- هذا القول لم تشهد له آيات القرآن الكريم، وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى، وانتهينا إلى القول بأن آدم مخلوق أرضى، نبت في الأرض، كما نبتت سائر المخلوقات التي دبّت عليها.
ثانيا: الوصف الذي وصفت به جنة آدم بأن ساكنها لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى- هذا الوصف يمكن أن يتحقق في كثير من جنات الأرض، حيث يجد من يعيش فيها ما يكفى مطالب الحياة وضروراتها، خاصة وأن آدم- في هذا الطور من حياته- لم يكن قد عرف نفسه، ولم يكن قد تعرف على ما فيه من إرادة، وأنه لم يكتمل فيه الإنسان الذي ظهر بعد أن أكل من الشجرة- فمطالبه، والحال كذلك، لا تعدو مطالب الرجل البدائى من سكان الأدغال.. وكل هذا حاضر عتيد بين يديه، لا يتكلف له جهدا.
وثالثا: إذا كانت الجنة السماوية قد ذكرت كثيرا في القرآن الكريم، في معرض الجزاء الأخروى للمتقين، فإن الجنة الأرضية قد ذكرت أيضا بهذا الاسم.. جنّة فقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} [166: البقرة].. وقال سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً} [32، 33: الكهف].. إلى آيات كثيرة، ورد فيها ذكر الجنة على هذا المعنى.
والقرائن التي قدمناها في هذا البحث تميل بجنة آدم إلى الجانب الأرضى وتقيمها على أي مكان من الأرض.
وقد سبق بعض قدماء المفسرين إلى القول بهذا الرأى، الذي ربما أنكره، وفزع منه كثير من علماء القرن العشرين! فهذا أبو مسلم الأصفهانى، صاحب التفسير، الذي كان عمدة كثير من علماء المسلمين وفقهائهم- يقول عن جنة آدم: هي جنة من جنات الدنيا في الأرض.
ثم هو يجيب على الإشكال الذي يعترض به المعترضون في قوله تعالى لآدم وإبليس: {اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً} من أن هذا الهبوط يعنى نزولا من السماء إلى الأرض- يجيب على هذا الإشكال بقوله: إن قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْها} لا يقتضى كونها السماء، لأنه مثل قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً}.
ويقول محمد إقبال عن تلك الجنة أيضا: ليس هناك من سبب لافتراض أن كلمة جنة أي حديقة استعملت في هذا السياق- سياق قصة آدم- للدلالة على جنة وراء الحسّ، يفترض أن الإنسان هبط منها إلى هذه الأرض.
ثم يقول: وطبقا للقرآن- وليس الإنسان غريبا عن هذه الأرض، إذ يقول اللّه تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} فالجنة التي ورد ذكرها في القصة لا يمكن أن يقصد بها الجنة التي جعلها اللّه مقاما خالدا للمتقين.
ثم يقول: وعلى هذا، فأنا أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها في القرآن تصويرا لحالة بدائية، يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش فيها، ومن ثمّ فإنه لا يحسّ بلذعة المطالب البشرية، التي تحدد نشأتها- دون سواها من العوامل- بداية الثقافة الإنسانية.